المؤلفات --> مقالات
مقال بعض خصائص الشّريعة الاسلامية (الحلقة الثالثة)
بعض خصائص الشّريعة الاسلامية (الحلقة الثالثة) مقال كتبه الشيخ عبدالكريم زيدان عام 1338هـ - 1963م تحت عنوان (بعض خصائص الشّريعة الاسلامية) ونشر في مجلة التربية الاسلامية على ثلاث حلقات في عددها التاسع والعاشر والحادي عشر على التوالي من ذلك العام. ادناه الحلقة الثالثة من هذا المقال والتي نشرت في العدد الحادي عشر من مجلة التربية الاسلامية, وتحقيقاً للفائدة يُنصح بقراءة الحلقة الاولى والثانية قبل هذه المقالة لترابطهما مع هذه الحلقة شكلا وموضوعاً. بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان مدرس الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق رابعاً: شمول الشريعة والخصيصة الرابعة شمول الشريعة الاسلامية لجميع شؤون الحياة , وهذا امر واضح لكل مطلع على احكام الشريعة الاسلامية, فهي ترسم للإنسان سبيل الايمان وتبين له اصول العقيدة وتنظم صلته بربه, وتامر بتزكية نفسه, وتكم علاقاته مع غيره, وهكذا لا يخرج عن احكام الشريعة الاسلامية اي شيء وعلى ضوء هذا الشمول يمكن تقسيم احكام الشريعة الى ثلاث مجموعات وهي: أ) الاحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله واليوم الآخر, وهذه هي الاحكام الاعتقادية ومحل دراستها علم الكلام او التوحيد. ب) الاحكام المتعلقة بالأخلاق كوجوب الصدق والامانة والوفاء بالعهد والاخلاص وحرمة الكذب والخيانة ونقص العهد وطلب السمعة وما الى ذلك وهذه هي الاحكام الاخلاقية ومحل دراستها علم الاخلاق او التصوف. ج)  الاحكام المتعلقة بأقوال وافعال الانسان في علاقاته مع غيره وهذه هي الاحكام العملية وقد سميت فيما بعد بـ (الفقه) وحل دراستها علم الفقه. والاحكام الشرعية العملية بالنسبة الى ما تتعلق به تنقسم الى قسمين:     القسم الاول: العبادات كالصلاة والصيام, والمقصود بها تنظيم علاقة الفرد بربه.     القسم الثاني: العادات اي المعاملات, وهذه تنظم علاقات الافراد فيما بينهم, وهي تشمل جميع روابط القانون العام والقانون الخاص في الاصطلاح القانوني الحديث, لان احكام المعاملات تشمل ما يأتي: - الاحكام المتعلقة بالأسرة من نكاح وطلاق ونفقة ونسب ونحو ذلك وهي التي تسمى في الوقت الحاضر بقانون الاسرة او قانون الاحوال الشخصية. - الاحكام المتعلقة بعلاقات الافراد المالية ومعاملاتهم كالبيع والاجارة والرهن والكفالة ونحو ذلك و وتسمى هذه الاحكام في الوقت الحاضر بقانون المعاملات او القانون المدني, ومن هذه الاحكام ما يتعلق بالشركات والتفليس والامور التجارية الأخرى والتي ينظمها في الوقت الحاضر القانون التجاري. - الاحكام المتعلقة بالقضاء والدعوى والشهادة واليمين وسائر البينات الاخرى وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات. - الاحكام المتعلقة بمعاملة الاجانب غير المسلمين (المستأمنين) في الدولة الاسلامية وتنظيم علاقاتهم فيما بينهم او مع رعايا الدولة الاسلامية وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي الخاص. - الاحكام المتعلقة بتنظيم علاقة الدولة الاسلامية بالدول الاخرى في حالة السلم والحرب وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي العام. - الاحكام المتعلقة بنظام الحكم وقواعده وحقوق الافراد في الدولة الاسلامية وعلاقاتهم معها, وهي تدخل فيما يسمى اليوم القانون الدستوري. - الاحكام المتعلقة بموارد الدولة الاسلامية ومصارفها وتنظيم العلاقات المالية بين الافراد والدولة وبين الاغنياء والفقراء, وهي تدخل في نطاق القانون المالي بفروعه المختلفة. - الاحكام المتعلقة بتحديد علاقة الفرد بالدولة الاسلامية من جهة الافعال المنهي عنها (الجرائم) ومقدار عقوبة كل جريمة. وهذه الاحكام تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الجزائي او قانون العقوبات, ويلحق بها الاجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وانزال العقاب بالمجرمين وهي ما يسمى اليوم بقانون تحقيق الجنايات. فهذا الشمول الذي جاءت به الشريعة, على النحو الذي بيناه آ نفاً, لا نظير له في القوانين الوضعية فهي لا تنظم مسائل العقيدة ولا الاخلاق ولا العبادات, وحتى في جانب العادات (المعاملات) الذي تناولته هذه القوانين الوضعية بالتنظيم نجد ان تنظيم الشريعة له جاء على نحو يميزها عن القوانين الوضعية , فالجانب الاخلاقي مُراعي في الشريعة مراعاة تامة, ومن مظاهر هذه المراعاة تحريم الربا والميسر والزنى, ولزوم الوفاء بالعهود من قبل الدولة الاسلامية في علاقتها مع الدول الاخرى في السلم والحرب ورعاية جانب الاخلاق والفضيلة ولو كلفها هذا ثمناً غاليا ولهذا نص الفقهاء على احكام هي غاية في الروعة والجلال ومن هذه الاحكام عدم جواز تسليم الاجنبي في الدولة الاسلامية الى دولته ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم لان الاجنبي دخل دار الاسلام بأمان وعلى الدولة الاسلامية ان تفي بعهدها له فيبقى آمناً لا يمسه سوء , فتسليمه بدون رضاه غدر بالأمان والغدر في شرع الاسلام حرام لا رخصة فيه فلا يجوز. ونصهم على ان الدولة الاجنبية لو قتلت رعايا الدولة الاسلامية فيها, فان الدولة الاسلامية لا يحل لها ان تقتل رعايا تلك الدولة الداخلين الى دار الاسلام بأمان, ونصهم على ان الاجنبي الداخل الى دار الاسلام بأمان تؤخذ منه ضريبة على أمواله التجارية بمقدار ما تأخذه دولته من المسلم اذا دخل اليها بأموال تجارية , ولكن اذا كان المأخوذ من المسلم يستغرق كل امواله فان الدولة الاسلامية لا تفعل ذلك بالنسبة لرعايا تلك الدولة, ويعلل الفقهاء هذا المسلك بان اخذ كل اموال الاجنبي ظلم ولا متابعة بالظلم واننا لا نتخلق بالأخلاق السيئة وان تخلقوا هم بها لان الاسلام نهانا عن ذلك, كما لو قتلوا الداخل اليهم منا بأمان لا نقابلهم بالمثل فلا نقتل من دخل الينا منهم بأمان. وكما ان جانب الاخلاق مراعى في المعاملات الشرعية فان الجانب الديني مراعى فيها ايضاً, وهذا ما تختلف به الشريعة عن القوانين الوضعية, فالجانب الديني عنصر اصيل في المعاملاتفهو الذي يكسب الفعل صفة الحل والحرمة بناء على حقيقته الباطنة ونية صاحبه وقصده, فالفعل قد يكون صحيحاً في ظاهره لاستيفائه شروط الصحة ولكنه يعتبر حراماً لمخالفته حقيقته الباطنة ونية صاحبه لما تأمر به الشريعة الاسلامية كالذي يقصد بالنكاح تحليل المطلقة ثلاثاً لمطلقها, وكالذي يدعي دَيناً على آخر ظلما ويثبت ذلك امام القضاء, وكالذي يتزوج امرأة للأضرار بها لا لغرض آخر. والاصل في تعلق الحقوق وثبوت الاثار الشرعية للأفعال والتصرفات على حقيقة الفعل وكونه حلالاً ظاهرا وباطناً, ولكن لما كان الباطن امراً خفياً يعجز الانسان عن ادراكه او يتعذر عليه ذلك , ولأجل استقرار الحقوق وجريان الاحكام على اساس امر ثابتة ظاهرة مضبوطة , فقد اعتبرت الشريعة الاسلامية الظاهر وجعلت صحة قرينته على صحة الباطن لان الحكم بالظاهر لا يصّير الحرام حلالاً ولا الحلال حراماً وبالتالي لا يحل للمسلم ان يبيح لنفسه فعل الحرام وان اباح له ذلك القضاء بناء على ظاهر الفعل , ويدل على صحة ما قلناه قول النبي الكريم ﷺ (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار). ولهذا اذا ظهر الباطن ظهوراً كافيا وتكشفت حقيقته فان العبرة به لا بالظاهر سواء أكان هذا الظهور بدلالة الحال او بشرط في التصرف , فبيوع الآجال التي يتوصل بها الى الربا كمن يبيع من آخر سلعة بألف نسيئة ثم يشتريها منه حالاً بتسعمائة نقداً يعتبر بيعاً باطلاً عند اكثر الفقهاء لان حقيقة التصرف ربا أخذ شكل البيع وقد دلت القرينة على هذه الحقيقة فلا عبرة بظاهر البيع, ومثل هذا ايضا نكاح المحلل الذي تدل عليه قرائن الحال نكاح فاسد عند كثير من الفقهاء ويعتبر فاسداً عند جمهورهم باشتراطه في عقد النكاح. ولا شك ان مراعاة الجانب الديني في المعاملات وما ترتب عليه من وصف الفعل بالحل والحرمة بناء على حقيقته الباطنة ونية صاحبه يجعل المسلم لا يقدم عل فعل الا اذا كان حلالا جائزاً ظاهراً وباطنا وان كان القضاء يبيح له ذلك بناء على ظاهر.
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
http://www.drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
http://www.drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=153