الأرشيف --> الفتاوى
حكم المشاركة في شؤون الحكم مع الحاكم الجائر
حكم المشاركة في شؤون الحكم مع الحاكم الجائر سؤال: ما حكم المشاركة في شؤون الحكم مع الحاكم الجائر؟ الجواب:   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين وبعد: ان الذي يكشف لنا حكم هذه المسالة, ما تشير البه الايتان (إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ), ومعنى الآية الاولى, انما اريد اصلاحكم جهدي وطاقتي بان تصلحوا دنياكم بالعدل وأخرتكم بالعبادة ما استطعت لان الاستطاعة من شروط الفعل [انظر تفسير ابن كثير ج2 ص456 وتفسير القرطبي ج9 ص9]. ومعنى الاية الثانية فاتقوا الله ما استطعتم اي جهدكم وطاقتكم, كما ثبت في الصحيحين عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ (ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه). ومن تقوى الله ارادة الاصلاح للمسلمين بحملهم على طاعة شرع الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر, وبهذا تتحقق مصالحهم الحقيقية في الدنيا والاخرة, وهذا هو مقصد الشريعة الاسلامية وهو ما صرح به العلماء المحققون, قال العز بن عبد السلام (ان الشريعة كلها مصالح, اما درء مفاسد او جلب مصالح) [القواعد للعز بن عبدالسلام ج1 ص9] وقال شيخ الاسلام ابن تيمية (ان الشريعة الاسلامية جاءت لتحصيل المصالح وتكمياها وتعطيل المفاسد وتقليلها) [منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج1 ص147 و ج2 ص240 و ج3 ص118] وقال ابن القيم (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها) [اعلام المعوقين لابن القيم ج2 ص1] وقال الفقيه الشاطبي (انها – اي الشريعة - وضعت لمصالح العباد) [الموافقات للشاطبي ج2 ص6] واذا تعارضت المفاسد والمصالح جاءت القاعدة الفقهية (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) والقاعدة الفقهية (الضرر الاشد يزال بالضرر الاخف) وعلى هذا الاساس ايضا يندب او يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اذا كان من ورائه تحصيل مصلحة او دفع مفسدة, فاذا كان ما يترتب عليه فوات معروف اكبر او حصول منكر اكبر لم يكن هذا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب شرعا لان المطلوب من المسلم ان يتقي الله في قيامه بواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء ما قدمناه وهو ان يحقق معروفا اكبر او يدفع مفسدة ومنكرا اكبر. 2- واذا تبين ما قلناه, فأن المشاركة في الحكم مع الحاكم الجائر هي امر جائز بل هي في ظل الاوضاع القائمة امر واجب, للأسباب التالية:      اولا– ان تلقي الولاية على امر من امور الدولة او شان من شؤنها من الحاكم الكافر يجوز اذا كان في ذلك مصلحة للناس, يدل على ذلك قول الله تعالى حكاية عن طلب يوسف من فرعون الولاية على خزائن الارض – اي اقواتها وزروعها – قال تعالى (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ), قال ابن كثير في تفسي هذه الاية (وسألَ العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس) [تفسير ابن كثير ج3 ص 482]. وقال الزمخشري في تفسير هذه الاية (وانما قال – اي يوسف – ذلك ليتوصل الى إمضاء احكام الله تعالى واقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لاجله تبعث الانبياء الى العباد, ولعلمه ان احداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك, فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. فان قلت كيف جاز ان يتولى عملاً من يد كافر ويكون تبعا له وتحت امرته وطاعته؟ قلت: عن قتادة هو دليل على تنه يجوز ان يتولى الانسان عملا من يد سلطان جائر. وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة . واذا علم النبي او العالم انه لا سبيل الى الحكم بأمر الله ودفع الظلم الا بتمكين الملك الكافر او الفاسق فله ان يستظهر به – اي يتخذه ظهيرا له) [تفسير الزمخشري ج2 ص 482]. وقال القرطبي في تفسير هذه الأية (قال بعض اهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل ان يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر شرط ان يعلم انه يفوض اليه في فعل لا يعارضه فيه فيصلح منه ما شاء) [تفسير القرطبي ج9 ص215]. وقال ابن عطية في تفسير هذه الآية ما قال القرطبي فيها, بل ان القرطبي نقل نص كلام ابن عطية [تفسير ابن عطية ج8 صـ 5,6]. وقال القاسمي في تفسير هذه الآية (وهذه الاية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق بالقيام بحقوقه, وجواز التولية عن الكافر والظالم) [تفسير القاسمي ج9ص242]. وقد يُقال ان ما فعله يوسف عليه السلام بشأن طلب الولاية هو من قبيل شرع من قبلنا, وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا, والجواب من وجهين:    الوجه الاول: ان القراْن الكريم اذا حكى قولا عن الماضين ولم ينكره دل ذلك على انه قول حسن وصحيح, وما كان حقا وصحيحا ومقبولا عند الله جاز اتباعه والاخذ به فكيف اذا كان قول يوسف عليه السلام وهو رسول كريم؟    الوجه الثاني: قوله تعالى:(أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) أي هؤلاء الرسل الذين تقدم ذكرهم هم الهداة المهديون فتأس واقتد بسيرتهم العطرة [صفوة التفاسير للصابوني ج1 ص404].      ثانيا– قال الفقيه العز بن عبدالسلام (ولو استولى الكفار على اقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة, فالذي يظهر لي انفاذ ذلك كله جلباَ للمصالح العامة ودفعا للمفاسد) [قواعد الاحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام ج1 ص 81].      ثالثا– وفي الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه الحنفية (ويجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر ولو كان كافرا الا اذا كان يمنعه من القضاء بالحق فيحرم) [الدر المختار ورد المحتار ج ص368].    رابعا– وفي رد المحتار عاى الدر المختار للفقيه ابن عابدين (اذا ولي الكافر عليهم – اي على المسلمين الذين احتل الكفار بلادهم – قاضيا ورضيه المسلمون صحت ولايته) [رد المحتار على الدر المختار ج5 ص 368]. 3 – ومن هذه النقول التي ذكرناها في تفسير آية طلب يوسف الولاية على خزائن الارض من فرعون, واقوال الفقهاء في جواز تولي سلطة القضاء من السلطان الكافر. ذلك الجواز الملحوظ فيه تحقيق مصالح الناس, يتبين لنا بوضوح جواز بل وجوب المشاركة بالحكم لما في هذه المشاركة من تحقيق مصالح مؤكدة للناس وذلك باستعمال حقوق الوظيفة وواجباتها على وجه المصلحة للناس, وايضا في هذه المشاركة استعمالها في نشر الدعوة الاسلامية دون انكار من اهل الباطل.      خامسا– ومن اسباب جواز المشاركة في الحكم بل وجوبه, ان عدم المشاركة يفسح المجال لاهل الباطل لملأ الفراغ والتقدم الى هذه المشاركة, فتضيع فرصة مهمة وسلطة مؤكدة وصلاحية قانونية لنشر الدعوة وجر الناس البها والقيام بمصالحهم, ولا يمكن للجماعة الاسلامية ان تحصل على هذه المصالح بكونها جماعة معارضة لان معارضتها لا اثر لها قي الواقع لهزال الرأي العام وعدم استعداد الناس للدفاع عن المعارضة ولا الاستجابة لمطالبها. ان هذه المعارضة لا اثر لها الا في داخل مجلس الامة بان بسمع اعضاؤه ما تريده المعارضة اما تنفيذ ذلك فلا اثر له لان الحكومة لا تستجيب لها اي المعارضة.      سادساً– لا بد للدعوة ونشرها بين الناس من جو هاديء وحماية من اذى المخالفين, ولا يتأتى ذلك بالعزوف عن المشاركة في الحكم بل بالمشاركة فيه, والدليل على ضرورة الجو الهاديء للدعوة والحماية لها وللقائمين عليها ما يأتي:           أ - الاستعانة بحماية الكافر وجواره يجوز للمسلم ان يستعين بحماية ونصرة الكافر له وجواره له ليقوم بنشر دعوته بين الناس دون مضايقة ولا اذى ولا منع من اهل الباطل, فقد كان رسول الله ﷺ يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم الى الله وبخبرهم انه نبي مرسل ويسألهم ان يصدقوه ويمنعوه – أي بحموه – حتى يبلأي بحموه – حتى يبلغ عن الله ما ارسل به فكان ﷺ يقف على منازل القبائل من العرب ويقول (يا بني فلان اني رسول الله اليكم, يأمركم ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وان تؤمنوا بي وتمنعنوني – اي – تحموني حتى ابين عن الله ما بعثني به) [سيرة ابن هشام ج2 ص31-32] وفي بيعة العقبة الكبرى قال ﷺ (ابايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وابنائكم) [سيرة ابن هشام ج2 ص50]. ولما عاد الرسول ﷺ من الطائف ولم يجد عندهم نصرة له ولا ايمانا به, وانتهى الى حراء بعث رجلا من خزاعة الى المطعم من عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره) [امتاع الاسماع للمقريزي ص28]. وعندما رجع المسلمون المهاجرون الى الحبشة ظنا منهم ان اهل مكة اسلموا لم يدخل احد منهم الا بجوار او مستخفيا اي بجوار مشرك ليحميه من ايذاء او اعتداء قريش عليه [ سيرة ابن هشام ج1 ص288]. وقد عرض ابن الدغنة على ابي بكر جواره فقبله ابو بكر, فقال ابن الدغنة: يا معشر قريش اني قد اجرت ابن ابي قحافة – اي ابا بكر – فلا يعرضن له احد بخير [ سيرة ابن هشام ج1 ص 396]. ووجه الدلالة بما ذكرناه ان طلب حماية المشرك للمسلم حتى يبلغ الدعوة او لينجو من اذى الكفار, اذا كان مثل هذا الطلب جائزا, فهو اكثر جوازا عن طريق المشاركة في الحكم لما يترتب على هذه المشاركة من كف اذى الدولة على الجماعة المسلمة وعلى الدعاة لانهم بهذه المشاركة يسهل عليهم تسخير قوة الدولة لحمايتهم وكف الاذى عن الدعاة المسلمين.      ب – قلنا ان الدعاة بحاجة الى جو هاديء بعيد عن مضايقة اهل الباطل لهم حتى يمكن لهؤلاء الدعاة الانطلاق بدعوتهم وتبليغها للناس دون وجل من احد ولا مضايقة من احد وبهذا الجو الهادئ تنتعش الدعوة وتنتشر, لان الدعوة الى الله كالبذر للزرع وكابناء للبيت والبذر لا ينبت في الاعاصير والرياح الهوجاء, والبناء لا يقوم في الهياج وانشغال البناة في مدافعة الاذى واعتداء المبطلين, ولهذا لما توفر للدعوة الاسلامية الجو الهادىء بعد صلح الحديبية دخل في الاسلام مثل من كان في الاسلام من قبل ذلك الصلح واكثر [سيرة ابن هشام ج3 ص 278] ومن المعلوم ان هذا الجو الهاديء للدعوة والدعاة يمكن تحصيله عن طريق المشاركة في الحكم على نحو اسهل واوسع من تحصيله عن طريق عدم المشاركة في الحكم.      سابعا– ومن اسباب ومبررات المشاركة في الحكم مع الحاكم الجائر, ان فقه الاسلام يتسع لقبول بقاء المنافق في المجتمع الاسلامي ومعاملته كمسلم حسب الظاهر, لان في هذا المسلك دفع مفسدة عظمى بتحمل مفسدة صغرى اذا أُريد معاقبة هذا المنافق, فقد ترك النبي ﷺ عبدالله بن ابي وامثاله من المنافقين لما لهم من اعوان, وازالة منكرهم بنوع من العقاب تستلزم ازالة معروف اكبر من ذلك بغضب قومهم وحميتهم وبنفور الناس اذا سمعوا ان محمد ﷺ يقتل اصحابه [ فتاوى ابن تيمية ج 28 ص131]. ويستدل بهذا على امكان تحمل بقاء الحاكم الجائر والعمل معه ومعاملته على اساس ظاهره لما في هذا المسلك من دفع مفسدة اكبر في اعلان معارضته وعداوته من مفسدة العمل معه.      ثامنا– لقد هاجر المسلمون بإذن من النبي ﷺ الى الحبشة تخلصا من اذى قريش وابقاء على حياة المسلمين, وقال لهم ﷺ في اذنه لهم بالهجرة الى الحبشة ( لو خرجتم الى ارض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد وهي ارض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما انتم فيه) [سيرة ابن هشام ج2 ص 343] فاذا جاز الخروج الى الحبشة وقبول حماية النجاشي للمسلمين المهاجرين حفظاً لحياتهم, فالمشاركة في الحكم مع ما يترتب عليها من حماية الدولة للدعاة المسلمين بسبب هذه المشاركة, أولى بالجواز, لان حياة الدعاة المسلمين يتعلق بها مصالح المسلمين ومصالح الدعاة. الخلاصة: وخلاصة القول ان فوائد ومصالح المشاركة بالحكم اعظم واكثر من مضار المشاركة وفق منهج مدروس, والاستفادة منها وفق خطة موضوعة, كلما كانت فوائد ومصالح المشاركة كثيرة جدا وبالتالي تكون المشاركة من الواجبات التي تقتضيها الظروف القائمة, والله اعلم. لاحقة: جاء في احاديث صحيحة ان النبي ﷺ صلى على النجاشي حين موته وأُعلم ﷺ بوفاته وقال لاصحابه ان اخاً لهم قد مات, ولا يصلى الا على مسلم. ووجه الدلالة بذلك ان النجاشي بالرغم من كونه مسلم وبيده الامر والنهي الا انه لم يستطع ان ينفذ كل ما يعرفه من احكام الاسلام لان حاشيته من البطارقة وغيرهم كانوا لا يرضون منه الاسلام العمل به وقد قبل منه الاسلام في ذلك الوقت, فمن باب اولى ان يكون مقبولا مشاركة المسلم للحاكم الفاجر ما دام في هذه المشاركة عمل خير ومصلحة للمسلمين جهد المستطاع. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اجمعين, والحمد لله رب العالمين. الدكتور عبدالكريم زيدان
تجد هذه الصفحة في موقع الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان (الموقع الرسمي للشيخ عبدالكريم زيدان)
http://www.drzedan.com
الارتباط إلى هذه الصفحة
http://www.drzedan.com/content.php?lng=arabic&id=192